Skip to main content

عُرفت دبي دائماً برؤيتها الاستشرافية وابتكاراتها الرائدة. وفي السنوات الأخيرة، توجهت هذه الرؤية نحو الذكاء الاصطناعي – مما جعل دبي مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي. بل إن دولة الإمارات العربية المتحدة عيّنت أول وزير دولة للذكاء الاصطناعي في العالم عام 2017، مؤكدةً عزمها على الريادة في هذا المجال [2]. واليوم، تحتضن دبي منظومة ذكاء اصطناعي مزدهرة تضم أكثر من 800 شركة متخصصة تعمل في المدينة [1]. وتعكس هذه الشركات – التي اختار ثلثاها دبي مقراً عالمياً لها – مدى السرعة التي أصبحت بها الإمارة قِبلة لاستقطاب الكفاءات والاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي [1].

الرؤية والاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي

يرتكز توجه دبي نحو الذكاء الاصطناعي على استراتيجية واضحة على المستويين الوطني والمحلي. وتحدد استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031 أهدافاً طموحة، تتراوح بين بناء سمعة الدولة كوجهة رائدة للذكاء الاصطناعي ودمج هذه التقنيات في الخدمات الحكومية وتأهيل الكفاءات الجديدة [3]. وعلى المستوى الوطني، أنشأت القيادة وزارة مختصة بالذكاء الاصطناعي عام 2017 لتنسيق الجهود عبر مختلف القطاعات [2]. أما محلياً، فقد أطلقت حكومة دبي “المخطط الشامل لدبي للذكاء الاصطناعي” – وهو خارطة طريق لدمج الذكاء الاصطناعي في جميع القطاعات الحيوية [1]. وتهدف دبي من خلال هذه الرؤية إلى التحول من اقتصاد قائم على النفط إلى اقتصاد معرفي مبني على الابتكار، حيث يشكل الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية للتنويع الاقتصادي. وقد أكدت دراسة حديثة أن الذكاء الاصطناعي قد يساهم بـ 96 مليار دولار (13.6% من الناتج المحلي الإجمالي) في اقتصاد الإمارات بحلول عام 2030، مما يوضح سبب الرهان الكبير للدولة على هذا القطاع [3].

ولتحقيق هذه الرؤية، اتخذت دبي خطوات تنظيمية جريئة. ففي يونيو 2024، عيّنت المدينة 22 رئيساً تنفيذياً للذكاء الاصطناعي في الدوائر الحكومية الرئيسية لتسريع تبني الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة [1]. ويتولى قادة الذكاء الاصطناعي هؤلاء في جهات مثل الشرطة والطرق والمواصلات والمرافق والسياحة مهمة نشر حلول الذكاء الاصطناعي لتحسين الخدمات وصنع السياسات. كما تحرص الحكومة على ضمان حوكمة قوية للذكاء الاصطناعي من خلال وضع لوائح داعمة وأطر أخلاقية تتيح للابتكار أن يزدهر بمسؤولية. ومن خلال الجمع بين السياسات الاستشرافية والمبادرات الميدانية، تهيئ قيادة دبي بيئة يستطيع فيها الذكاء الاصطناعي إحداث تحول حقيقي في المدينة.

بناء منظومة الذكاء الاصطناعي: المراكز والكفاءات والشراكات

يُعد بناء منظومة متكاملة لشركات التقنية والشركات الناشئة والباحثين جزءاً محورياً من بروز دبي كمركز للذكاء الاصطناعي. فـمركز دبي المالي العالمي – الذي يُعد بالفعل مركزاً مالياً عالمياً – يستضيف الآن مركز ابتكار نابضاً بالحياة استقطب أكثر من 160 شركة ذكاء اصطناعي [4]. ووفقاً لمسؤولي المركز، فإن هذا العدد ينمو بسرعة، مع استهداف 500 شركة ذكاء اصطناعي بحلول عام 2028 [4]. وهذا يجعل تجمع الذكاء الاصطناعي في مركز دبي المالي العالمي من أكبر التجمعات في المنطقة، مما يخلق تأثيراً تراكمياً قوياً من خلال الجمع بين الشركات الناشئة والمستثمرين وخبراء القطاع في مكان واحد. كما تساهم مناطق حرة أخرى في هذا التوجه – فعلى سبيل المثال، أطلق مركز دبي للسلع المتعددة مركزاً مخصصاً للذكاء الاصطناعي لدعم مزودي حلول الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط. وتوفر هذه المبادرات لرواد الأعمال في مجال الذكاء الاصطناعي خيارات متعددة للتأسيس في دبي، مع مزايا تشمل ضريبة 0% وفرص تمويل وبنية تحتية متطورة.

يُعد تطوير الكفاءات ركيزة أخرى في استراتيجية دبي للذكاء الاصطناعي. وإدراكاً منها بأن المهارات هي وقود أي منظومة ذكاء اصطناعي، أنشأت دبي برامج تدريبية لتنمية رأسمالها البشري. فقد أطلق مركز دبي المالي العالمي أكاديمية دبي للذكاء الاصطناعي لتزويد المهنيين والطلاب بالخبرة في علوم البيانات والتعلم الآلي وتطوير الذكاء الاصطناعي [4]. وتعمل الأكاديمية بشكل وثيق مع القطاع الصناعي لضمان توافق التدريب مع احتياجات الأعمال الفعلية، مما يساعد في إعداد كفاءات جاهزة للعمل في مجال الذكاء الاصطناعي. وبالمثل، تعاونت دبي الرقمية (مكتب التحول الرقمي في المدينة) مع جامعات محلية مثل معهد روتشستر للتقنية في دبي لتقديم دورات متخصصة مثل “هندسة المُحفّزات” و”تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المخصصة” [3]. وتعمل هذه الدورات على رفع مهارات القوى العاملة في تقنيات الذكاء الاصطناعي الناشئة، مما يضمن قدرة المواطنين الإماراتيين والمقيمين على المساهمة في طفرة الذكاء الاصطناعي.

يركز نهج دبي أيضاً على الشراكات العالمية. فالمدينة تتعاون بنشاط مع عمالقة التقنية والمؤسسات البحثية حول العالم لجلب الخبرات والاستثمارات. فعلى سبيل المثال، تم إنشاء مختبر دبي للذكاء الاصطناعي بالشراكة مع شركة IBM لدمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية [3]. كما تتعاون شركات رائدة مثل Amazon Web Services وNvidia مع المبادرات الإماراتية لبناء بنية تحتية متقدمة للذكاء الاصطناعي. وهذه الروح التعاونية – التي تجمع بين الكفاءات المحلية والمعرفة العالمية – تؤتي ثمارها، إذ تساعد دبي على استقطاب باحثي الذكاء الاصطناعي والشركات الناشئة وكبرى شركات التقنية من مختلف أنحاء العالم، مما يعزز مكانة المدينة كمركز عالمي. كما تزدهر الشركات الناشئة المحلية: فـالمشاريع الإماراتية مثل Retry AI Studio (retry.ae) تجسد روح ريادة الأعمال في مشهد الذكاء الاصطناعي بدبي، حيث تطور حلولاً مبتكرة قائمة على الذكاء الاصطناعي ومصممة خصيصاً لتلبية احتياجات المنطقة. والجدير بالذكر أن نحو 72% من شركات الذكاء الاصطناعي في دبي هي شركات ناشئة أو مؤسسات صغيرة ومتوسطة، مما يبرز كيف تحتضن المنظومة المشاريع الجديدة [1]. ومن خلال رعاية هذا المزيج من اللاعبين العالميين الكبار والشركات الناشئة الرشيقة، تبني دبي تجمعاً شاملاً للذكاء الاصطناعي يغطي جميع جوانب البحث والتطوير وصولاً إلى التسويق التجاري.

الحكومة والخدمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي

من أبرز التأثيرات الملموسة للذكاء الاصطناعي في دبي ما نراه في الخدمات العامة والحوكمة الذكية. فقد سارعت حكومة دبي إلى دمج الذكاء الاصطناعي في جوانب عديدة من الإدارة المدنية لتحسين الكفاءة وتجربة المتعاملين. فشرطة دبي، على سبيل المثال، تستخدم الآن الذكاء الاصطناعي في 29 من عملياتها الداخلية – من المهام الإدارية إلى العمل الميداني – كجزء من التحول الرقمي الشامل [7]. ويشمل ذلك نشر روبوتات المحادثة والضباط الافتراضيين المدعومين بالذكاء الاصطناعي لخدمة الجمهور. فالضابطة الافتراضية “آمنة”، المتاحة عبر تطبيق شرطة دبي، تستخدم الذكاء الاصطناعي للتفاعل مع السكان بالعربية والإنجليزية. وفي عام 2023 وحده، أجرت الضابطة آمنة 20,000 محادثة مع الجمهور، للإجابة على الاستفسارات وتوجيه الناس إلى الخدمات دون أي تدخل بشري [7]. وتتيح هذه المساعدات الذكية خدمة عملاء على مدار الساعة وتحرر الضباط البشريين للتركيز على المهام الأكثر أهمية، مما يحسن سرعة الاستجابة.

كما أدخلت الشرطة الذكاء الاصطناعي في مجالات عملياتية كالتحقيقات وإدارة المرور. فالأنظمة الذكية تساعد في تحليل بيانات الجرائم للتنبؤ بها ومنعها، مما ساهم في خفض معدلات الجرائم الخطيرة في السنوات الأخيرة. وضمن برنامج المراقبة “عيون”، تستخدم شرطة دبي كاميرات مدعومة بالذكاء الاصطناعي مع تقنيات التعرف على الوجه وتحليل السلوك لمراقبة المناطق العامة ورصد التهديدات الأمنية [7]. إضافة إلى ذلك، تم تبسيط العمليات التي كانت يدوية وتستغرق وقتاً طويلاً. فالإبلاغ عن حادث مروري بسيط في دبي لم يعد يتطلب انتظار رجل شرطة – إذ يمكن لنظام “الإبلاغ الذكي عن الحوادث” المدعوم بالذكاء الاصطناعي تحليل الحادث البسيط وإصدار تقرير خلال دقائق عبر تطبيق الهاتف [7]. وقد قلصت هذه الابتكارات إجراءات الإبلاغ عن الحوادث البسيطة من 7 خطوات إلى 4 فقط، مما يوفر على السائقين الوقت والجهد [7]. حتى الشهادات الإدارية استفادت من الذكاء الاصطناعي: فشرطة دبي تصدر شهادات “فقدان جواز السفر” عبر نظام يجمع بين الذكاء الاصطناعي وتقنية البلوك تشين، وقد عالج أكثر من 66,000 طلب منذ عام 2021، مما ألغى الحاجة للزيارات الشخصية [7].

تستفيد خدمات المدينة الذكية الأوسع في دبي أيضاً من الذكاء الاصطناعي. فمنصات الحكومة الإلكترونية (مثل تطبيق DubaiNow وروبوتات المحادثة المختلفة على المواقع الرسمية) تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتخصيص الخدمات للسكان. سواء كان نظاماً ذكياً يحدد موعد فحص سيارتك التالي تلقائياً أو مساعداً افتراضياً يساعد رواد الأعمال على تأسيس أعمالهم عبر الإنترنت، فإن الذكاء الاصطناعي يعمل خلف الكواليس لجعل هذه الخدمات أكثر سلاسة. والهدف هو جعل التعامل مع الحكومة سهلاً كحجز سيارة أجرة – والذكاء الاصطناعي هو المفتاح لتحقيق هذا المستوى من البساطة. ومن خلال دمج الذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء والتوثيق واتخاذ القرار، تحقق دبي وعدها بحكومة ذكية وفعالة. ويتمتع السكان والشركات بأوقات إنجاز أسرع ومعلومات أدق وخدمات استباقية تتوقع احتياجاتهم، وكل ذلك بفضل التحسينات المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

نقل أذكى وبنية تحتية متطورة

في مسيرة دبي نحو التحول إلى مدينة تقنية متقدمة، يبرز قطاع النقل كنموذج لابتكارات الذكاء الاصطناعي. فقد تبنت هيئة الطرق والمواصلات الذكاء الاصطناعي وحلول التنقل الذكي لتحسين حركة المرور والسلامة وكفاءة النقل العام. ومن أبرز الإنجازات مركز نظم المرور الذكية في دبي، الذي يستخدم التحكم الذكي في إشارات المرور. وتعالج شبكة المرور الذكية هذه بيانات آنية من الكاميرات وأجهزة الاستشعار المنتشرة في شوارع المدينة. ومن خلال تطبيق التعلم الآلي، يمكنها التنبؤ بأحوال المرور وتعديل توقيت الإشارات ديناميكياً. والنتيجة انخفاض كبير في الازدحام – حيث خفضت إشارات المرور المحسّنة بالذكاء الاصطناعي التأخير بنحو 25% على الممرات الرئيسية، بل وخفضت تكاليف إدارة المرور بنسبة 20-30% من خلال التوقيت والتنسيق الأفضل [5]. وبالنسبة للمسافرين، يعني هذا أوقات تنقل أقصر ووقتاً أقل في الانتظار عند التقاطعات المزدحمة، مما يساهم مباشرة في جعل المدينة أكثر ملاءمة للعيش.

كما طبقت هيئة الطرق والمواصلات الذكاء الاصطناعي في فحص المركبات والرقابة. فنظام “أوتو تشيك 360” يستخدم الرؤية الحاسوبية (الذكاء الاصطناعي القائم على الصور) لأتمتة فحص المركبات في مراكز الفحص. ويمكن لهذا النظام الذكي تحديد المشكلات في السيارة والتحقق من المطابقة بسرعة تفوق المفتش البشري. وبشكل مثير للإعجاب، خفض نظام أوتو تشيك 360 متوسط وقت الفحص من 17 دقيقة إلى 7 دقائق فقط، مما حسّن تجربة السائقين عند تجديد تسجيل مركباتهم [5]. ومن خلال تقليل الأخطاء البشرية وتوحيد معايير الفحص عبر الذكاء الاصطناعي، أصبحت العملية أسرع وأكثر موثوقية. وعلى صعيد الرقابة، تمتلك دبي الآن نظام مراقبة مدعوم بالذكاء الاصطناعي لضمان السلامة على الطرق. ويستخدم مركز المراقبة الذكي التابع للهيئة شبكة مراقبة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لرصد سيارات الأجرة والحافلات ومركبات توصيل الركاب في جميع أنحاء المدينة. وبين يناير ويوليو 2025، رصد هذا النظام تلقائياً قرابة 30,000 مخالفة مرورية من خلال اكتشاف السرعة الزائدة وعدم ربط حزام الأمان واستخدام الهاتف أثناء القيادة في الوقت الفعلي [6]. ويتم إصدار الغرامات للسائقين المخالفين فوراً، ويمكن تحديد المخالفين المتكررين من خلال تحليل البيانات [6]. وقد جعلت هذه اليقظة الذكية الطرق أكثر أماناً من خلال ردع السلوك السيئ في القيادة عبر ضمان الكشف. فمن المستحيل عملياً أن تمر أي مخالفة دون رصد عندما يراقب الذكاء الاصطناعي على مدار الساعة.

تجرب دبي أيضاً بجرأة النقل الذاتي القيادة. ففي عام 2023، بدأت هيئة الطرق والمواصلات تجارب خدمة التاكسي الجوي – تاكسيات طائرة كهربائية مستقبلية (eVTOLs) تستخدم الذكاء الاصطناعي للملاحة الذاتية وأنظمة السلامة. ويمكن للتاكسي الجوي (المطور بالتعاون مع Joby Aviation) الإقلاع عمودياً ونقل الركاب عبر المدينة. فعلى سبيل المثال، رحلة من مطار دبي إلى نخلة جميرا التي تستغرق 45 دقيقة بالسيارة من المتوقع أن تستغرق 10 دقائق فقط بالتاكسي الجوي عند تشغيل الخدمة [5]. وتوضح هذه التاكسيات الطائرة ذاتية القيادة، الموجهة بالذكاء الاصطناعي والمتصلة بمنصات إدارة المرور الذكية، كيف تدمج دبي أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي في التنقل. وعلى الأرض، تشغّل المدينة بالفعل واحداً من أطول أنظمة المترو ذاتية القيادة في العالم، وهناك خطط لنشر حافلات ومركبات نقل ذاتية القيادة في مناطق محددة. وتندرج جميع هذه المبادرات ضمن رؤية دبي لـالتنقل الذكي، حيث يعمل الذكاء الاصطناعي وأجهزة استشعار إنترنت الأشياء والبيانات الضخمة معاً لإنشاء شبكة نقل متكاملة. بل أنشأت الهيئة منصة التنقل الذكي للمدن الآمنة التي تجمع بيانات الاتصال عن بُعد من حافلات المدارس ومركبات التوصيل وسيارات الأجرة؛ وتحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعي سلوك السائقين وبيانات المسارات للإشارة إلى الممارسات غير الآمنة واقتراح تحسينات المسارات في الوقت الفعلي [5]. وتحسن هذه الرقابة المستندة إلى البيانات السلامة للمسافرين والمشاة على حد سواء.

من إشارات المرور المنظمة بالذكاء الاصطناعي إلى التاكسيات الجوية ذاتية القيادة، يُظهر التحول في طرق دبي وسمائها الأثر الملموس للذكاء الاصطناعي على البنية التحتية للمدينة. ولا تعزز هذه الجهود الراحة والسلامة فحسب، بل ترسخ أيضاً صورة دبي كـحقل تجارب لمستقبل النقل. وسكان المدينة من أوائل من يختبرون كيف يمكن للذكاء الاصطناعي تقليص أوقات التنقل ومنع الحوادث وتقديم وسائل نقل جديدة كلياً. إنها لمحة عن مستقبل التنقل الحضري – وفي دبي، هذا المستقبل يصل الآن.

الأثر الاقتصادي والتحول القطاعي

استثمار دبي الاستراتيجي في الذكاء الاصطناعي لا يتعلق بالتقنية لذاتها – بل يتعلق جوهرياً بالتحول الاقتصادي والتنافسية. فمن خلال دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، تهدف دبي إلى تعزيز الإنتاجية وخلق فرص نمو جديدة. والأثر الاقتصادي المحتمل هائل: من المتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي ما يقارب 14% إلى الناتج المحلي الإجمالي للإمارات بحلول عام 2030، وهي أعلى نسبة إضافة في الشرق الأوسط [3]. والقطاعات المهمة لدبي كالمال والتجزئة والعقارات والسياحة والرعاية الصحية يُعاد ابتكارها من خلال الذكاء الاصطناعي. فالبنوك في دبي تستخدم تحليلات الذكاء الاصطناعي لكشف الاحتيال وتخصيص خدمات العملاء. وقد قدم بنك الإمارات دبي الوطني، أكبر بنك في المدينة، مساعداً افتراضياً يعمل بالذكاء الاصطناعي باسم “إيفا” للتعامل مع استفسارات العملاء، بينما تستخدم مؤسسات مالية أخرى الذكاء الاصطناعي للمعالجة الآلية للقروض وتقييم المخاطر. وفي قطاع التجزئة والتجارة الإلكترونية، تحلل الشركات بيانات العملاء بخوارزميات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالاتجاهات وإدارة المخزون بكفاءة أكبر (مما يحسن لوجستيات سلسلة التوريد التي تتفوق فيها دبي).

شهد قطاع التقنية المالية تحديداً تكاملاً قوياً مع الذكاء الاصطناعي. فمع تصنيف دبي ضمن أفضل أربع مراكز للتقنية المالية عالمياً [8]، تستفيد العديد من شركات التقنية المالية الناشئة في المدينة من الذكاء الاصطناعي في كل شيء من الاستشارات الآلية والتداول الخوارزمي إلى التصنيف الائتماني المدعوم بالذكاء الاصطناعي. ويدعم دمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية مبادرات مثل بيئة الاختبار التنظيمية في مركز دبي المالي العالمي ورخص اختبار الابتكار، التي تشجع على التجريب مع الذكاء الاصطناعي في بيئة محكومة. ونتيجة لذلك، تختار شركات التقنية المالية العالمية المركزة على الذكاء الاصطناعي دبي قاعدة لتطوير حلولها وإطلاقها في المنطقة. كما تتأثر الصناعات الإبداعية بالذكاء الاصطناعي – فوكالات التسويق الرقمي تستخدم الآن أدوات الذكاء الاصطناعي لتوليد رؤى الحملات أو حتى إنشاء المحتوى، وتستكشف شركات الإعلام في دبي الذكاء الاصطناعي لتخصيص توصيل الأخبار وإنتاج الفيديو. وتعزز الحكومة هذا التبني عبر القطاعات من خلال فعاليات مثل مهرجان دبي للذكاء الاصطناعي السنوي، الذي استقطب بحلول عام 2025 أكثر من 20,000 مشارك من أكثر من 120 دولة لمناقشة وعرض تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات [8]. ولا تضع هذه الفعاليات دبي على خارطة الذكاء الاصطناعي العالمية فحسب، بل تربط أيضاً الشركات بالمستثمرين والعملاء، مما يسرّع تسويق ابتكارات الذكاء الاصطناعي.

والأهم أن تركيز دبي على الذكاء الاصطناعي يتوافق مع الأجندات الوطنية طويلة المدى. فـأجندة دبي الاقتصادية D33، مثلاً، تبرز صراحة الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي كمحركين للنمو في العقد القادم، بهدف مضاعفة حجم اقتصاد دبي. وتؤمن قيادة المدينة بأن الذكاء الاصطناعي سيكون أساسياً في خلق وظائف عالية الجودة وصناعات جديدة (كالبحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي واستشارات علوم البيانات وغيرها)، مما يساعد على الاحتفاظ بالكفاءات محلياً واستقطاب الخبرات من الخارج. ونرى بالفعل دبي تصبح قِبلة لكفاءات الذكاء الاصطناعي – فالمتخصصون من مختلف أنحاء العالم ينتقلون إلى الإمارة جذباً بمشهدها التقني الديناميكي ومناخ أعمالها الداعم. ولتشجيع الابتكار أكثر، تقدم الحكومة منحاً وحاضنات للشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، ويرتفع تمويل رأس المال المغامر للشركات الناشئة الإماراتية في الذكاء الاصطناعي بثبات عاماً بعد عام. كما يوجد تركيز قوي على الذكاء الاصطناعي المسؤول والأخلاقي – فدبي من أوائل المدن التي وضعت إرشادات لمطوري الذكاء الاصطناعي لضمان العدالة والشفافية والخصوصية في حلول الذكاء الاصطناعي، مما يساعد على بناء ثقة الجمهور في هذه التقنيات. ومن خلال معالجة جانب الحوكمة، تسعى دبي لضمان تحقيق فوائد الذكاء الاصطناعي دون المساس بالقيم المجتمعية.

باختصار، الذكاء الاصطناعي يعيد تصور طريقة العمل المعتادة في دبي. فالعمليات التي كانت تستغرق أياماً تُنجز في ثوانٍ؛ والقرارات التي كانت تعتمد على الحدس أصبحت مبنية على البيانات وأكثر دقة. وتستطيع القطاعات التوسع بسرعة أكبر باستخدام أتمتة الذكاء الاصطناعي للتعامل مع المهام الروتينية، مما يتيح للعاملين التركيز على الأدوار الإبداعية والاستراتيجية. ومع استمرار نضج الذكاء الاصطناعي، يضع استثمار دبي المبكر المدينة في موقع قوي للاستفادة من التطورات المستقبلية – سواء كانت الاختراق القادم في الذكاء الاصطناعي التوليدي أو التقدم في الروبوتات والتعلم الآلي. ويعني النهج الاستباقي للمدينة أنها تستطيع تبني التطورات الجديدة في الذكاء الاصطناعي أسرع من كثير من نظيراتها. فلا عجب أن تحليلاً حديثاً صنف دبي ضمن أفضل خمس مدن عالمياً في تبني الذكاء الاصطناعي [8]. وهذا الاعتراف العالمي شهادة على المدى الذي قطعته دبي في وقت قصير.

الخاتمة: قيادة المستقبل من خلال الذكاء الاصطناعي

من الحوكمة والبنية التحتية إلى الأعمال والحياة اليومية، يُحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً عميقاً في دبي. فـالاستراتيجية الشاملة للمدينة – التي تجمع بين السياسات الداعمة والبنية التحتية عالمية المستوى وتنمية الكفاءات والابتكار في القطاع الخاص – مكّنتها من البروز كـمركز عالمي حقيقي للذكاء الاصطناعي. وتقدم تجربة دبي نموذجاً لكيفية تسخير المدن للذكاء الاصطناعي لتحسين جودة الحياة والحيوية الاقتصادية في آن واحد. فالسكان اليوم يتمتعون بخدمات أذكى، سواء كان روبوت محادثة يتعامل مع استفسار حكومي أو ذكاء اصطناعي مروري يسهّل تنقلهم. ورواد الأعمال يجدون أرضاً خصبة لبناء حلول الذكاء الاصطناعي، مدعومين بالمسرّعات والسوق المرحّبة. والمستثمرون العالميون يرون في دبي منصة انطلاق لتطوير ابتكارات الذكاء الاصطناعي وتوسيع نطاقها ليس للشرق الأوسط فحسب بل للعالم.

تؤكد قيادة دبي باستمرار أن المرونة والقرارات الجريئة هي مفتاح النجاح في عصر الذكاء الاصطناعي. وكما قال سمو الشيخ حمدان بن محمد آل مكتوم، ولي عهد دبي، بليغاً: “بينما يُشكّل الذكاء الاصطناعي المستقبل، يكمن نجاحنا في اتخاذ قرارات جريئة وخلق بيئة تعزز التميز العالمي. بدعم من الكفاءات الوطنية والشراكات العالمية، تقف دبي في طليعة التحول التقني. المستقبل هو دبي، ودبي هي المستقبل.” [1] وتختزل هذه الرؤية الاستشرافية سبب تقدم دبي في مجال الذكاء الاصطناعي. فمن خلال صياغة المستقبل بالذكاء الاصطناعي بفاعلية – بدلاً من انتظار الآخرين ليحددوا المسار – ضمنت دبي أن تظل مدينة المستقبل. وفي هذه المسيرة، ترسي معايير جديدة لكيفية احتضان المراكز الحضرية لثورة الذكاء الاصطناعي لصالح اقتصادها ومجتمعها. رحلة دبي كمركز للذكاء الاصطناعي بدأت للتو، لكن من الواضح أن المدينة تمتلك العزيمة والموارد والرؤية لقيادة المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي لسنوات قادمة.